سورة الإسراء - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)}
{وَكُلَّ إنسان} منصوب على حد {كُلّ شَىْء} [الإسراء: 12] أي وألزمنا كل إنسان مكلف {ألزمناه طَئِرَهُ} أي عمله الصادر منه باختياره حسا قدر له خيرًا كان أو شرًا كأنه طار إليه من عش الغيب ووكر القدر، وفي الكشاف أنهم كانوا يتفاءلون بالطير وبسمونه زجرًا فإذا سافروا ومر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحًا بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا وإن مر بارحًا بأن مر من جهة اليمين إلى الشمال تشاءموا ولذا سمي تطيرًا فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير استعارة تصريحية لما يشبههما من قدر الله تعالى وعمل العبد لأنه سبب للخير والشر.
ومنه طائر الله تعالى لا طائرك أي قدر الله جل شأنه الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن، وقد كثر فعلهم ذلك حتى فعلوه بالظباء أيضًا وسائر حيوانات الفلا وسمواكل ذلك تطيرًا كما في البحر، وتفسيره بالعمل هنا مروى عن ابن عباس ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد وذهب إليه غير واحد وفسره بعضهم بما وقع للعبد في القسمة الأزلية الواقعة حسب استحقاقه في العلم الأزلي من قولهم: طار إليه سهم كذا، ومن ذلك فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي ألزمنا كل إنسان نصيبه وسهمه الذي قسمناه له في الأزل {فِى عُنُقِهِ} تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط وعلى ذلك جاء قوله: إن لي حاجة إليك فقال: بين أذني وعاتقي ما تريد؛ وتخصيص العنق لظهور ما عليه من زائن كالقلائد والأصواق أو شائن كالاغلال والأوهاق ولأنه العضو الذي يبقى مشكوفًا يظهر ما عليه وينسب إليه التقدم والشرف ويعبر به عن الجملة وسيد القوم. فالمعنى ألزمناه غله بحيث لا يفارقه أبدًا بل يلزمه لزوم القلادة والغل لا ينفك عنه بحال.
وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن النطفة التي يخلق منها النسمة تطير في المرأة أربعين يومًا وأربعين ليلة فلا يبقى منها شعر ولا بشر ولا عرق ولا عظم إلا دخلته حتى إنها لتدخل بين الظفر واللحم فإذا مضى أربعون ليلة وأربعون يومًا أهبطها الله تعالى إلى الرحم فكانت علقة أربعين يومًا وأربعين ليلة ثم تكون مضغة أربعين يومًا وأربعين ليلة فإذا تمت لها أربعة أشهر بعث الله تعالى إليها ملك الأرحام فيخلق على يده لحمها ودمها وشعرها وبشرها ثم يقول سبحانه صور فيقول: يا رب أصور أزائد أن ناقص أذكر أم أنثى أجميل أم ذميم أجعد أم سبط أقصير أم طويل أأبيض أم آدم أسوى أم غير سوى فيكتب من ذلك ما يأمر الله تعالى به ثم يقول: أي رب أشقى أم سعيد؟ فإن كان سعيدًا نفخ فيه بالسعادة في آخر أجله وإن كان شقيًا نفخ فيه بالشقاوة في آخر أجله ثم يقول أكتب أثرها ورزقها ومصيبتها وعملها بالطاعة والمعصية فيكتب من ذلك ما يأمره الله تعالى ثم يقول الملك: يا رب ما أصنع بهذا الكتاب فيقول: سبحانه علقه في عنقه إلى قضائي عليه».
فذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ}.
ولا يخفى أن الظاهر من هذا الخبر أن ذكر العنق ليس للتصوير المذكور وأن الطائر عبارة عن الكتاب الذي كتب فيه ما كتب.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس أنه فسره بذلك صريحًا، وباب المجاز واسع، ونحن نؤمن بالحديث إذا صح ونفوض كيفية ما دل عليه إلى اللطيف الخبير جل جلاله، والظاهر منه أيضًا عدم تقييد الإنسان بالمكلف، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب القدر. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وآخر الآية ظاهر في التقييد.
وقرأ مجاهد. والحسن وأبو رجاء {طيره} وقرئ {فِى عُنُقِهِ} بسكون النون {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة} والبعث للحساب {كتابا} هي صحيفة عمله، ونصبه على أنه مفعول {نُخْرِجُ} وجوز أن يكون حالًا من مفعول لنخرج محذوف وهو ضمير عائد على الطائر أي نخرجه له حال كونه كتابًا. ويعضد ذلك قراءة يعقوب. ومجاهد، وابن محيض {وَيُخْرِجْ} بالياء مبينيًا للفاعل من خرج يخرج ونصب {كتابا} فإن فاعله حينئذ ضمير الطائر وكتابًا حال منه والأصل توافق القراءتين، وكذا قراءة أبي جعفر {وَيُخْرِجْ} بالياء مبنيًا للمفعول من أخرج ونصب {كتابا} أيضًا، ووجه كونها عاضدة أن في يخرج حينئذ ضميرًا مستترًا هو ضمير الطائر وقد كان مفعولًا، واحتمال أن يكون {لَهُ} نائب الفاعل فلا تعضد لا يلتفت إليه لأن إقامة غير المفعول مع وجوده مقام الفاعل ضعيفة وليس ثمت ما يكون كتابًا حالًا منه فيتعين ما ذكر كما قاله ابن يعيش في شرح المفصل، وعنه أيضًا أنه قرئ {يَخْرُجُ} بالبناء للمفعول أيضًا ورفع {كتاب} على أنه نائب الفاعل وقرأ الحسن {يَخْرُجُ} بالبناء للفاعل من الخروج ورفع {كِتَابٌ} على الفاعلية، وقرأت فرقة ويخرج بالياء من الإخراج مبنيًا للفاعل وهو ضمير الله تعالى وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن هارون قال في قراءة أبي بن كعب {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا} {يلقياه} أي يلقي الإنسان أو يلقاه الإنسان {يلقاه مَنْشُورًا} غير مطوى لتمكن قراءته، وفيه إشارة إلى أن ذلك أمر مهيء له غير مغفول عنه، وجملة {يلقاه} صفة كتابًا و{مَنْشُورًا} حال من ضميره، وجوز أن يكونا صفتين له، وفيه تقدم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر.
وأبو جعفر والجحدري. والحسن بخلاف عنه {يلقاه} بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقيته كذا أي يلقي الإنسان إياه.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك في قبرك حتى تجيء يوم القيامة فتخرج لك.


{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}
{اقرأ كتابك} بتقدير يقال له ذلك، وهذه الجملة إما صفة أو حال أو مستأنفة، والظاهر أن جملة قوله تعالى: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} من جملة مقول القول المقدر، وكفى فعل ماض وبنفسك فاعله والباء سيف خطيب وجاء اسقاطها ورفع الاسم كما في قوله:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا ***
وقوله:
ويخبرني عن غائب المرء هديه *** كفى الهدى عما غيب المرء مخبرًا
ولم تلحق الفعل علامة التأنيث وإن كان مثله تلحقه كقوله تعالى: {مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 6] {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ} [الأنعام: 4] قيل لأن الفاعل مؤنث مجازي ولا يشفي الغليل لأن فاعل ما ذكر من الأفعال مؤنث مجازي مجرور بحرف زائد أيضًا وقد لحق فعله علامة التأنيث وغاية الأمر في مثل ذلك جواز الإلحاق وعدمه ولم يحفظ كما في البحر الإلحاق في كفى إذا كان الفاعل مؤنثًا مجرورًا بالباء الزائدة، ومن هنا قيل إن فاعل كفى ضمير يعود على الاكتفاء أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك، وقيل هو اسم فعل عنى اكتف والفاعل ضمير المخاطب والباء على القولين ليست بزائدة، ومرضى الجمهور ما قدمناه، والتزام التذكير عندهم على خلاف القياس.
ووجه بعضهم ذلك بكثرة جر الفاعل بالباء الزائدة حتى أن إسقاطها منه لا يوجد إلا في أمثلة معدودة فانحطت رتبته عن رتبة الفاعلين فلم يؤنث الفعل له، وهذا نحو ما قيل في مربهند وقيل غير ذلك، و{اليوم} ظرف لكفى و{حَسِيبًا} تمييز كقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] وقولهم: لله تعالى دره فارسًا، وقيل: حال وعليك متعلق به قدم لرعاية الفواصل وعدى بعلي لأنه عنى الحاسب والعاد وهو يتعدى بعلي كما تقول عدد عليه قبائحه، وجاء فعيل الصفة من فعل يفعل بكسر العين في المضارع كالصريم عنى الصارم وضريب القداح عنى ضاربها إلا أنه قليل أو عنى الكافي فتجوز به عن معنى الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه فعدى بعلي كما يعدى الشهيد، وقيل هو عنى الكافي من غير تجوز لكنه عدى تعدية الشهيد للزوم معناه له كما في أسد علي، وهو تكلف بارد، وتذكيره وهو فعيل عنى فاعل وصف للنفس المؤنثة معنى لأن الحساب والشهادة مما يغلب في الرجال فأجرى ذلك على أغلب أحواله فكأنه قيل كفى بنفسك رجلًا حسيبًا أو لأن النفس مؤولة بالشخص كما يقال ثلاثة أنفس أو لأن فعيل المذكور محمول على فعيل عنى فاعل والظاهر أن المراد بالنفس الذات فكأنه قيل كفى بك حسيبًا عليك.
وجعل بعضهم في ذلك تجريدًا فقيل: إنه غلط فاحش. وتعقب بأن فيه بحثًا فإن الشاهد يغاير المشهود عليه فإن اعتبر كون الشخص في تلك الحال كأنه شخص آخر كان تجريدًا لكنه لا يتعلق به غرض هنا.
وعن مقاتل أن المراد بالنفس الجوارح فإنها تشهد على العبد إذا أنكر وهو خلاف الظاهر.
وعن الحسن أنه كان إذا قرأ الآية قال: يا ابن آدم أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك، والظاهر أنه يقال ذلك للمؤمن والكافر، وما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي من أن الكافر يخرج له يوم القيامة كتاب فيقول: رب إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ} الآية لا يدل على أنه خاص بالكافر كما لا يخفى، ويقرأ في ذلك اليوم كما روى عن قتادة من لم يكن قارئًا في الدنيا.
وجاء أن المؤمن يقرأ أولًا سيآته وحسناته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف ولا يراها هو فيغبطونه عليها فإذا استوفى قراءة السيآت وظن أنه قد هلك رأى في آخرها هذه سيآتك قد غفرناها لك فيتبلج وجهه ويعظم سروره ثم يقرأ حسناته فيزداد نورًا وينقلب إلى أهله مسرورًا ويقول: {هاؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابية} [الحاقة: 19، 20].
وأما الكافر فيقرأ أولًا حسناته وسيآته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف فيتعوذون من ذلك فإذا استوفى قراءة الحسنات وجد في آخرها هذه حسناتك قد رددناها عليك وذلك قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] فيسود وجهه ويعظم كربه ثم يقرأ سيآته فيزداد بلاء على بلاء وينقلب زيد خيبة وشقاء ويقول: {ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 25، 26] جعلنا الله تعالى ممن يقرأ فيرقى لا ممن يقرأ فيشقى نه وكرمه؛ هذا وفسر بعضهم الكتاب بالنفس المنتقشة بآثار الأعمال ونشره وقراءته بظهور ذلك له ولغيره، وبيانه أن ما يصدر عن الإنسان خيرًا أو شرًا يحصل منه في الروح أثر مخصوص وهو خفي ما دامت متعلقة بالبدن مشتغلة بواردات الحواس والقوى فإذا انقطعت علاقتها قامت قيامته لانكشاف الغطاء باتصالها بالعالم العلوي فيظهر في لوح النفس نقش أثر كل ما عمله في عمره وهو معنى الكتابة والقراءة، ولا يخفى أن هذا منزع صوفي حكمي بعيد من الظهور قريب من البطون، وفيه حمل القيامة على القيامة الصغرى وهو خلاف الظاهر أيضًا، والروايات ناطقة بما يفهم من ظاهر الآية نعم ليس فيها نفي انتقاش النفس بآثار الأعمال وظهور ذلك يوم القيامة فلا مانع من القول بالأمرين، ومن هنا قال الإمام: إن الحق أن الأحوال الظاهر التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضًا والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل ونعم ما قال غير أن كون ذلك الاحتمال ظاهرًا غير ظاهر، وقال الخفاجي: ليس في هذا ما يخالف النقل وقد حمل عليه ما روى عن قتادة من أنه يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئًا ولا وجه لعده مؤيدًا له، وأنت تعلم أن حمل كلام قتادة على ذلك تأويل أيضًا ولعل قتادة وأمثاله من سلف الأمة لا يخطر لهم أمثال هذه التأويلات ببال والكلام العربي كالجمل الأنوف والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
وفي كيفية النظم ثلاثة أوجه ذكرها الإمام.
الأول: أنه تعالى لما قال: {وَكُلَّ شَىْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12] تضمن أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد قد صار مذكورًا وإذا كان كذلك فقد أزيحت الأعذار وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه، الثاني: أنه تعالى لما بين أنه سبحانه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما فكأنه كان منعمًا عليهم بوجوه النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته تعالى وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة يكون مسئولًا عن أقواله وأعماله، الثالث: أنه تعالى بين أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل كان إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سيألته هل أتى بتلك الطاعة أو تمرد وعصى اه، وقد يقال وجه الربط أن فيما تقدم شرح حال كتاب الله تعالى المتضمن بيان النافع والضار من الأعمال وفي هذا شح حال كتاب العبد الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من تلك الأعمال إلا أحصاها وحسنه وقبحه تباع للأخذ بما في الكتاب الأول وعدمه فمن أخذ به فقد هدى ومن أعرض عنه فقد غوى، وقوله تعالى:


{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}
وقوله تعالى: {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ} فذلكة لما تقدم من كون القرآن هاديًا للتي هي أقوم وللزوم الأعمال لأصحابها أي من اهتدى بهدايته وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعة الاهتداء به إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد {وَمَن ضَلَّ} عما يهتديه إليه {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي فإنما وبال ضلاله عليها لا على من لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل صاحبه {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} تأكيد للجملة الثانية أي لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم، وخص التأكيد بالجملة الثانية قطعًا للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم.
وروى عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة لما قال: افكروا حد صلى الله عليه وسلم وعلى أوزاركم، ولا ينافي هذه الآية ما يدل عليه قوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا} [النساء: 85] وقوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته لأنه في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئته فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له وإنما يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة واليئة وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين ومايحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال قاله شيخ الإسلام، ولهذه الآية طعنت عائشة رضي الله تعالى عنها في صحة خبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» فإن فيه أخذ الإنسان بجرم غيره وهو خلاف ما نطقت به الآية.
وأجيب بأن الحديث محمول على ما إذا أوصى الميت بذلك فيكون ذلك التعذيب من قبيل جزاء الإضلال، وقيل: المراد بالميت المحتضر مجازًا وبالتعذيب التعذيب في الدنيا أي أن المحتضر يتأمل ببكاء أهله عليه فلا ينبغي أن يبكوا، ولهذا أيضًا منع جماعة من قدماء الفقهاء صرف الدية على العاقلة لمافيه من مؤاخذة الإنسان بفعل غيره، وأجيب بأن ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء وإلا فالمخطىء نفسه ليس ؤاخذ على ذلك الفعل فكيف يؤاخذ غيره عليه، واستدل بها الجبائي على أن أطفال المشركين لا يعذبون وإلا كانوا مؤاخذين بذنب آبائهم وهو خلاف ظاهر الآية، وزعم بعضهم أنها نزلت فيهم وليس بصحيح، نعم أخرج ابن عبد البر في التمهيد بسند ضعيف عن عائشة قالت:
«سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: هم من آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال: الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت ولا تزر وازرة وزر أخرى فقال: هم على الفطرة أو قال في الجنة» والمسألة خلافية وفيها مذاهب فقال الأكثرون: هم في النار تبعًا لآبائهم واستدل لذلك بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة أيضًا قالت «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين أين هم؟ قال: في الجنة وسألته عن ولدان المشركين أين هم؟ قال في النار قلت: يا رسول الله لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام قال: وربك أعلم بما كانوا عاملين والذي نفسي بيده إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار» وفيه أن هذا الخبر قد ضعفه ابن عبد البر فلا يحتج به، نعم صح أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين يقال: الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وليس فيه تصريح بأنهم في النار وحقيقة لفظه الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ.
وأخرج الشيخان. وأصحاب السنن. وغيرهم عن ابن عباس قال: حدثني الصعب بن جثامة قلت: يا رسول الله أنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال: هم منهم. وهو عند المخالفين محمول على أنهم منهم في الأحكام الدنيوية كالاسترقاق.
وتوقفت طائفة فيهم ومن هؤلاء أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وقيل: فيهم من يدخل الجنة ومن يدخل النار لما أخرج الحكيم الترمذي في النوادر عن عبد الله بن شداد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فسأله عن ذراري المشركين الذين هلكوا صغارًا فوضع رأسه ساعة ثم قال: أين السائل؟ فقال: هذا أنذا يا رسول الله فقال: إن الله تبارك وتعالى إذا قضى بين أهل الجنة والنار ولم يبقى غيرهم عجوا فقالوا: اللهم ربنا لم تأتنا رسلك ولم نعلم شيئًا فأرسل إليهم ملكًا والله تعالى أعلم بما كانوا عاملين فقال: إني رسول ربكم إليكم فانطلقوا فاتبعوا حتى أتوا النار فقال إن الله تعالى يأمركم أن تفتحموا فيها فاقتحمت طائفة منهم ثم خرجوا من حيث لا يشعر أصحابهم فجعلوا في السابقين المقربين ثم جاءهم الرسول فقال إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فاقتحمت طائفة أخرى ثم أخرجوا من حيث لا يشعرون فجعلوا في أصحاب اليمين ثم جاء الرسول فقال: إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فقالوا: ربنا لا طاقة لنا بعذابك فأمر بهم فجمعت نواصيهم وأقدامهم ثم ألقوا في النار.
وذهب المحققون إلى أنهم من أهل الجنة وهو الصحيح ويستدل له بأشياء منها الآية على ما سمعت عن الجبائي.
ومنها حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وحوله أولاد الناس قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين قال: وأولاد المشركين رواه البخاري في صحيحه، ومنها ما أخرجه الحكيم الترمذي أيضًا في النوادر. وابن عبد البر عن أنس قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: هم خدام أهل الجنة.
ومنها الآية الآتية حيث أفادت أن لا تعذيب قبل التكليف ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يبلغ، ولم يخالف أحد في أن أولاد المسلمين في الجنة إلا بعد من لا يعتد به فإنه توقف فيهم لحديث عائشة توفى صبي من الأنصار فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله: اعطه إني لأراه مؤمنًا قال أو مسلمًا الحديث، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم» إلى غير ذلك من الأحاديث، وقال القاضي: دلت الآية على أن الوزر ليس من فعله تعالى لأنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره ولأنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلًا لأن الوازر إنما يوصف بذلك إذا كان مختارًا يمكنه التحرز ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بذلك، وأنت تعلم أن هذا إنما ينتهض على الجبرية لا على الجماعة القائلين لا جبر ولا تفويض {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ} بيان للعناية الربانية إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها أي وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائنا السابق أن نعذب أحدًا بنوع ما من العذاب دنيويًا كان أو أخرويًا على فعل شيء أو ترك شيء أصليًا كان أو فرعيًا {حتى نَبْعَثَ} إليه {رَسُولًا} يهدي إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع أو حتى نبعث رسولًا كذلك تبلغه دعوته سواء كان مبعوثًا إليه أم لا على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى منا لخلاف، وهذا غاية لعدم صحة وقوع العذاب في وقته المقدر له لا لعدم وقوعه مطلقًا كيف والأخروي لا يمكن وقوعه عقيب البعث والدنيوي لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجب من الفسق والعصيان، ألا يرى إلى قوم نوع عليه السلام كيف تأخر عنهم ما حل بهم زهاء ألف سنة، وألزم المعتزلة القائلون بالوجوب العقلي قبل البعثة بهذه الآية لأنه تعالى نفى فيها لتعذيب مطلقًا قبل البعثة وهو من لوازم الوجوب بشرط ترك الواجب عندهم إذ لا يجوزون العفو فينتفي الوجوب قبل البعثة لانتفاء لازمه، ومحصوله أنه لو كان وجوب عقلي لثبت قبل البعثة ولا شبهة في أن العقلاء كانوا يتركون الواجبات حينئذ فيلزم أن يكونوا معذبين قبلها وهو باطل الآية.
وتعقب بأنه إنما يتم إذا أريد بالعذاب ما يشمل الدنيوي والأخروي كما أشير إليه لكن المناسب لما بعد أن يراد عذاب الاستئصال في الدنيا ولا يلزم من انتفاء العذاب الدنيوي قبل البعث انتفاء الوجوب لأن لازم الوجوب عندهم هو العذاب الأخروي. وأجيب بعد تسليم أن المناسب لما بعد أن يراد العذاب الدنيوي بأن الآية لما دلت على أنه لا يليق بحكمته إيصال العذاب الأدنى على ترك الواجب قبل التنبيه ببعثة الرسول فدلالتها على عدم إيصال العذاب الأكبر على تركه قبل ذلك أولى، وأورد الأصفهاني في «شرح المحصول» على من استدل بالآية على نفي الوجوب العقلي قبل البعثة أمورًا، الأول أن المراد بالرسول فيها العقل، الثاني: أنا سلمنا أن المراد النبي المرسل لكن الآية دلت على نفي تعذيب المباشرة قبل البعثة ولا يلزم منه نفي مطلق التعذيب.
الثالث: أنا سلمنا ذلك لكن ليس في الآية دلالة على نفي التعذيب قبلها عن كل الذنوب. الرابع: أنا سلمنا الدلالة لكن لا يلزم من نفي المؤاخذة انتفاء الاستحقاق لجواز سقوط المؤاخذة بالمغفرة، ثم أجاب عن الأول بأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة، وعن الثاني بأن من شأن عظيم القدر التعبير عن نفي التعذيب مطلقًا بنفي المباشرة، وعن الثالث بما أشرنا إليه من أن تقدير الكلام وما كنا معذبين أحدًا ويلزم من ذلك انتفاء تعذيب كل واحد من الناس وذلك هو المطلوب لأن الخصم لا يقول به.
وعن الرابع بأن الآية تدل على انتفاء التعذيب قبل البعثة وانتفاؤه قبلها ظاهرًا يدل على عدم الوجوب قبلها فمن ادعى أن الوجوب ثابت وقد وقع التجاوز بالمغفرة فعليه البيان اه، وأنت تعلم أنه إذا كان الاستدلال إلزاميًا كما قال به غير واحد لا يرد الأمر الرابع أصلًا لأن المعتزلة لا يجوزون العفو عن تارك الواجب العقلي.
وقد أشرنا إلى ذلك، نعم قال المراغي في «شرح منهاج الأصول» للقاضي: لا حاجة إلى جعل الدليل إلزاميًا بل يجوز إتمامه على تقدير جواز العفو أيضًا بأن يقال وقوع العذاب وإن لم يكن لازمًا للوجوب لكن عدم الأمن من وقوعه لازم له ضرورة إذ يجوز العقاب على ترك الواجب عندنا وإن لم يجب وهذا اللازم أعني عدم الأمن منتف لدلالة الآية على عدم وقوعه فينتفي الملزوم.
ورد ذلك أولًا نع أن عدم الأمن من وقوع العذاب من لوازم ترك الواجب مطلقًا بل عدم الأمن إذا لم يتيقن عدم وقوع العذاب بدليل آخر، وأما ثانيًا فبأن انتفاء عدم الأمن إنما هو بالآية إذ قبل ورودها كان العقاب جائزًا ولا شك أن انتفاءه بها انتفاء بالعفو لأن معنى العفو عدم العقاب والآية تدل عليه فلم يتم الدليل على تقدير جواز العفو وهو كما ترى، وقيل: نجعل اللازم جواز العقاب فيتم الدليل تحقيقًا لأن جواز العفو لا ينافي جواز العقاب. ورد بأن الملازمة القائلة بأنه لو كان الوجوب ثابتًا قبل الشرع لعذب تارك الواجب وإن كانت مسلمة حينئذ لكن بطلان التالي ممنوع لأن الآية إنما تدل على نفي وقوع العذاب لا على نفي جوازه.
وفيه أن معنى {مَا كُنَّا مُعَذّبِينَ} ما سمعت وهو يدل على نفي الجواز، وقد كثر استعمال هذا التركيب في ذلك كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا ظالمين} [الشعراء: 209] {وَمَا كُنَّا لاَعِبِينَ} [الأعراف: 7] إلى غير ذلك ولو أريد نفي الوقوع لقيل وما نعذب حتى نبعث رسولًا.
وضعف الإمام الاستدلال بالآية بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي البتة وهذا باطل فذاك باطل قال: بيان الملازمة من وجوه، أحدها: أنه إذا جاء الشارع وادعى كونه نبيًا من عند الله تعالى وأظهر المعجزة فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة وإن وجب فأما أن يجب بالشرع أو بالعقل فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي وإن وجب بالشرع فهو باطل لأن ذلك الشارع إما أن يكون هو ذلك المدعى أو غيره والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن يقول ذلك الرجل الدليل: على أنه يجب قبول قولي أني أقول يجب قبول قولي وهذا إثبات للشيء بنفسه، وإن كان غيره كان الكلام فيه كما في «الأول: ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان، وثانيها: أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم إلا أن يقول لو تركت كذا أو فعلت كذا لعاقبتك، فنقول: إما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب فإن لم يجب لم يتقرر معنى الوجوب البتة وإن وجب فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع فإن وجب بالعقل فهو المقصود وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى الوجوب إلا بسبب ترتيب العقاب عليه وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال.
وثالثها: أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى العفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب فلم يبق إلا أن يقال: إن ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب وهذا الخوف حاصل حض العقل فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف وإن هذا الخوف حاصل جرد العقل فلزم أن يقال: الوجوب حاصل جرد العقل، فإن قالوا: ماهية الوجوب إنما تقرر بسبب حصول الذم، قلنا: إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم فعلى هذا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل حض العقل فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه اه.
وتعقبه العبادي بأنه يمكن الجواب عن الأول بأنه إذا أظهر المعجزة على دعواه أنه رسول ثبت صدقة كما تقرر في محله فيجب قبول قوله في كل ما يخبر عن الله تعالى من غير لزوم محذور من إثبات الشيب بنفسه أو الدور أو التسلسل، وإن كان ثبوت ما أخبر بالشرع عنى أن ثبوته بإخبار من ثبتت رسالته بالمعجزة عن الله تعالى بذلك وليس حاصل الكلام على هذا أنه يقول: الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول يجب قولي حتى يلزم ما يلزم بل حاصله أنه يقول: يجب قبول قولي لأنه ثبت أني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعالى فيجب صدقي وتصديقي في كل ما أدعيه، وليس في هذا شيء من المحاذير السابقة، وقد صرح السيد السند في «شرح الموافق» بأنه يثبت الشرع وتجب المتابعة جرد دعوى الرسالة مع اقتران المعجزة وتمكن المبعوث إليه العاقل من النظر وأن لم ينظر، وذكر أنه حينئذ لا يجوز للمكلف الاستمهال ولو استمهل لم يجب الإمهال لجريان العادة بإيجاب العلم عقيب النظر الذي هو متمكن منه فعلم أنه جرد دعوى الرسالة مع ما ذكر بثبت الوجوب بأخبار وهو ثبوت الشرع لأن معنى الثبوب به بالاخبار عن الله تعالى حقيقة أو حكمًا وعلى هذا لا يتأتى الترديد الذي ذكره بقوله لأن ذلك الشرع إما أن يكون إلخ فليتأمل، وعن الثاني بأن وجوب الاحتراز عن العقاب ليس أمرًا أجنبيًا عن وجوب كذا حتى يتوجه عليه الترديد الذي ذكره بل هو نفس وجوب كذا أو لازمه إذ الاحتراز ليس إلا بالاتيان بكذا الذي هو الواجب فوجوب الاحتراز ليس إلا بالاتيان بكذا الذي هو الواجب فوجوب الاحتراز إما وجوب كذا أو لازمه فوجوبه بوجوبه فلا يلزم الترديد المذكور، وعن الثالث بأنه إن أراد بقوله إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب أن حصول الواجب في الخارج بالإتيان به إنما هو بسبب حصول الخوف فليس الكلام فيه ومع ذلك إنا لا نسلم أن الإتيان بالواجب متوقف على حصول الخوف وإن أراد أن تحقق وجوب الواجب أي تعلق وجوبه بالمكلف الذي هو التكليف التنجيزي متوقف على حصول الخوف المذكور فهو ممنوع كما هو ظاهر اه فتدبر.
وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على تقدير تمامه لا يختص بالمعتزلة بل يشاركهم في ذلك أحد فريقي الحنفية من أهل السنة وهم الماتريدية وعامة مشايخ سمرقند لأنهم وإن لم يقولوا كالمعتزلة بأن العقل حاكم بالحسن والقبح اللذين أثبتوها جميعًا لكنهم قالوا: إن العقل آلة للعلم بهما فيخلقه الله تعالى عقيب نظر العقل نظرًا صحيحًا وأوجبوا الايمان بالله تعالى وتعظيمه وحرموا نسبة ما هو شنيع إليه سبحانه حتى روى عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو لم يبعث الله تعالى رسولًا لوجوب على الخلق معرفته، وقد صرح غير واحد من علمائهم بأن العقل حجة من حجبب الله تعالى ويجب الاستدلال به قبل ورود الرع، واحتجوا في ذلك بما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله لأبيه وقومه {إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضلال مُّبِينٍ} [الأنعام: 74] حيث قال ذلك ولم يقل أوحى إلي ومن استدلاله بالنجوم ومعرفة الله تعالى بها وجعلها حجة على قومه وكذاك كل الرسل حاجوا قومهم بحجج العقل كما ينبىء عنه قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى لِلَّهِ *شَكٌّ فَاطِرِ السموات والارض} [إبراهيم: 10] الآية وبقوله تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] الآية حيث لم يقل ومن يدع مع الله إلهًا آخر بعدما أوحى إليه أو بلغته الدعوة وبقوله سبحانه خبرًا عن أهل النار {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] حيث أخبروا أنهم صاروا في النار لتركهم الانتفاع بالسمع والعقل.
وفيه أنهم لو انتفعوا بالعقول في معرفة الصانع قبل ورود الشرع لم يصيروا في النار وبأن الحجج السمعية لم تكن حججًا إلا باستدلال عقلي، وبأن المعجزة بعد الدعوة لا تعرف إلا بدليل عقلي وآيات الأنفس والآفاق أدل على الصانع من دلالة المعجزة على أنها من الله تعالى فلما كان بالعقل كفاية معرفة المعجزة كان به كفاية معرفة الله تعالى من طريق الأولى، وبأن دعاء جميع الكفرة إلى دين الإسلام واجب على الأمة ومعلوم أن الدهرية لا يحتج عليهم بكلام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يبق إلا حجج العقول إلى غير ذلك، وحينئذ يقال لهم: لو وجب على الخلق معرفة الله تعالى والإيمان به قبل بعثة رسول لزم تعذيب الكافر قبلها لاخباره تعالى بأنه لا يغفر الشرك به وقد نفى التعذيب في الآية فلا وجوب ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم على نهج ما فعل مع المعتزلة، والإمام الرازي بعد أن ضعف الاستدلال بالآية وأثبت الوجوب العقلي ذكر في الآية وجهين، الأول: حمل الرسول على العقل، والثاني: تخصيص العموم بأن يقال المراد وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع ثم قال: والذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ماينتفع به وترك ما يتضرر به ويمتنع أن يحكم العقل عليه تعالى بوجوب فعل أو ترك فعل اه.
وأنت تعلم ما قيل من حمل الرسول على العقل وهو خلاف استعمال القرآن الكريم، ويبعده توبيخ الخزنة الكفار بقولهم {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ موسى بالبينات} [غافر: 50] ولم يقولوا أو لم تكونوا عقلاء، وحمل الرسول فيه على العقل مما لا يرتضيه العقل، واعتذر هو عن التخصيص بأنه بأنه وإن كان عدولًا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه إذا قام الدليل عليه وقد قام بزعمه.
وأبو منصور الماتريدي ومتبعوه حملوا الآية على نفي تعذيب الاستئصال في الدنيا، وذهب هؤلاء إلى تعذيب أهل الفترة بترك الايمان والتوحيد وهم كل من كان بين رسولين ولم يكن الأول مرسلًا إليهم ولا أدركوا الثاني، واعتمد القول بتعذيبهم النووي في «شرح مسلم» فقال: إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل عليهم السلام. والظاهر أن النووي يكتفي في وجوب الايمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسول وإن لم يكن مرسلًا إليه فلا منافاة بين حكمه بأنهم أهل فترة بالمعنى السابق وحكمه بأن الدعوة بلغتهم خلافًا للأبي في زعمه ذلك، نعم إنما تلزم المنافاة لو ادعى أن من تقدمهم من الرسول مرسلًا إليهم وليس فليس.
وإلى ذلك ذهب الحليمي فقال في منهاجه: إن العاقل المميز إذا سمع أية دعوة كانت إلى الله تعالى فترك الاستدلال بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر كان بذلك معرضًا عن الدعوة فكفر ويبعد أن يوجد شخص لم يبلغه خبر أحد من الرسل على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم والذين كفروا بهم وخالفوهم فإن الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق ولو أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت إلهًا ولا نرى أن ذلك يكون فأمره على الاختلاف في أن الايمان هل يجب جرد العقل أو لابد من انضمام النقل، وهذا صريح في ثبوت تكليف كل أحد بالايمان بعد وجود دعوة أحد من الرسول وإن لم يكن رسولًا إليه، وبالغ بعضهم فـ ياعتماد ذلك حتى قال: فمن بلغته دعوة أحد من الرسول عليهم السلام بوجه من الوجوه فقصر في البحث عنها فهو كافر من أهل النار فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة مع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار اه.
والذي عليه الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من الفقهاء أن أهل الفترة لا يعذبون وأطلقوا القول في ذلك، وقد صح تعذيب جماعة من أهل الفترة. وأجيب بأن أحاديثهم آحاد لا تعارض القطع بعدم التعذيب قبل البعثة، وبأنه يجوز أن يكون تعذيب من صح تعذيبه منهم لأمر مختص به يقتضي ذلك علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم نظير ما قيل في الحكم بكفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه، وقيل إن تعذيب هؤلاء المذكورين في الأحاديث مقصور على من غير وبدل من أهل الفترة بما لا يعذر به كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع كما فعل عمرو بن لحي ولا يخفى أن هذا لا يوافق إطلاق هؤلاء الأئمة ولا القول بأنه لا وجوب إلا بالشرع ولو أمكن أن يكون من ثبت تعذيبه من أتباع من بقي شرعه إذ ذاك كعيسى عليه السلام لم يبق إشكال أصلًا، واستدل بعض من يقول بتعذيبهم مطلقًا بما أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. والطبراني. وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرًا فيقول الممسوخ عقلًا: يا رب لو آتيتني عقلًا ما كان من آتيته عقلًا بأسعد بعقله مني ويقول الهالك في الفترة: يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني ويقول الهالك صغيرًا: يا رب لو آتيتني عمرًا ما كان من آتيته عمرًا بأسعد بعمره مني فيقول لهم الرب تبارك وتعالى: فاذهبوا فادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئًا فتخرج عليهم قوابص من نار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء فيرجعون سراعًا ويقولون: يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أن قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك ويقولون كذلك فيقول الرب تعالى خلقتكم على علمي وإلى علمي تصيرون يا نار ضميهم فتأخذهم النار» وبعض الأخبار يقتضي أن منهم من يعذب ومنهم من لا يعذب.
فقد أخرج أحمد. وابن راهويه. وابن مردويه. والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئًا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول فيأخذ سبحانه مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولًا أن ادخلوا النار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن لم يدخلها سحب إليها». وأخرج قاسم بن أصبغ. والبزار. وأبو يعلى. وابن عبد البر في التمهيد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى يوم القيامة بأربعة بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الهرم الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم: أبرزي ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلًا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم فيقول لهم: ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أتدخلناها ومنها كنا نفر وأما من كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيقول الرب تعالى: قد عاينتموني فعصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيبًا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار» إلى غير ذلك من الأخبار، ويحتج بها من قال بانقسام ذراري المشركين بل وذراري المؤمنين وفي القلب من صحتها شيء وإن قال في الإصابة: إنها وردت من عدة طرق وعلى تقدير صحتها فمعارضها أصح منها، والذي يميل إليه القلب أن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدته وتنزهه عن الولد سبحانه قبل ورود الشرع للأدلة السابقة وغيرها وإن كان في بعضها ما يقال وإرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة منه تعالى أو أن ذلك لبيان ما لا ينال بالعقول من أنواع العبادات والحدود فلا يرد أنه لو كان العقل حجة ما أرسل الله تعالى رسولًا ولاكتفى به. وقيل في جوابه: لما كان أمر البعث والجزاء مما يشكل مع العقل وحده إلا بعظيم تأمل فيه حرج يعذر الإنسان ثله ولا إيمان بدونه بعث الله تعالى الرسل عليهم السلام لبيان ما به تتمة الدين لا لنفس معرفة الخالق فإنها تنال ببداية العقول فالبعرة تدل على البعير والأثر على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج إلا تدل على اللطيف الخبير.
وأيضًا إن الله تعالى لم يدعنا ورسولًا من أول الأمر إلى آخره والحجة كانت قائمة بالواحد كما بقيت حمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ولم يدل ذلك على أن الأول لم يكن حجة كافية، وكذلك لم يدعنا سبحانه والبيان بآية واحدة بل من علينا جل شأنه بآيات متكررة ولا يدل ذلك أن الآية الواحدة لم تكن حجة كافية.
وقوله تعالى خبرًا عن قول الخزنة لأهل النار: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات} [غافر: 50] توبيخ بالأظهر وهو لا يدل على أن الأخر ليس بحجة، وقوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] على معنى لئلا يكون لهم احتجاج بزعمهم بأن يقولوا {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [طه: 134]، وقوله تعالى: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: 131] محمول على الإهلاك بعذاب الاستئصال في الدنيا على تكذيب الرسل وأما جزاء الكفر فالنار في العقبى، وكذا يقال في الآية التي نحن فيها لكثرة ما يدعو إليه فلا عذر لمن لم يعرف ربه سبحانه من أهل الفترة إذا كان عاقلًا مميزًا متمكنًا من النظر والاستدلال لا سيما إذا بلغته دعوة رسول من الرسل عليهم السلام ولا يكاد يوجد من لم تبلغه كما سمعت عن الحليمي وقيل: بوجوده في أمريقا وهي المسماة بيكي دنيا قبل أن يظفر بها في حدود الألف بعد الهجرة كرشتوفيل المشهور بقلوبنو فإن أهلها على ما بلغنا إذ ذاك لم يسمعوا بدعوا رسول أصلًا، ثم المفهوم من كلام الأجلة أن النزاع إنما هو بالنسبة لأحكام الإيمان بالله تعالى بخلاف الفروع فلا خلاف في أنها لا تثبت إلا في حق من بلغته دعوة من أرسل إليه وهو الظاهر، نعم ما اتفق عليه الملل من الفروع هل هو كالإيمان حتى يجري فيه النزاع المتقدم فيه نظر، وأما الإيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم فليس بواجب على من لم تبلغه دعوته إذ ليس للعقل في ذلك مجال كما لا يخفى على ذي عقل بل قال حجة الإسلام الغزالي. الناس بعد بعثته عليه الصلاة والسلام أصناف، صنف لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلًا فأولئك مقطوع لهم بالجنة، وصنف بلغتهم دعوته وظهور المعجزة على يده وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهرانينا فأولئك مقطوع لهم بالنار، وصنف بلغتهم دعوته عليه الصلاة والسلام وسمعوا به لكن كما يسمع أحدنا بالدجال وحاشا قدره الشريف صلى الله عليه وسلم عن ذلك فهؤلاء أرجو لهم الجنة إذ لم يسمعوا ما يرغبهم في الإيمان به اه، ولعل القطع بالجنة للأولين ورجاءها للآخرين إنما يكونان إذا كانوا مؤمنين بالله تعالى وأما إذا لم يكونوا كذلك فهم على الخلاف، ثم إن مسألة عدم الوجوب قبل ورود الشرع إنما يتم الاستدلال عليه بالآية عند المستدلين بها كما قال الأصفهاني إذا كان المقصود تحصيل غلبة الظن فيها ورود الشرع إنما يتم الاستدلال عليه بالآية عند المستدلين بها كما قال الأصفهاني إذا كان المقصود تحصيل غلبة الظن فيها فإن كانت علمية فلا يمكن إثباتها بالدلائل الظنية، وفيها عندهم نوع اكتفاء أي وما كنا معذبين ولا مثيبين حتى نبعث رسولًا، قالوا: واتغنى عن ذكر الثواب بذكر مقابله من العذاب ولم يعكس لأنه أظهر منه في تحقق معنى التكليف فتأمل.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8